Tuesday, February 16, 2021

غابة من الحزن

غابةٌ من الحزن نبتت في قلبي إذ خرجت من المطار ولم يكن أبي في انتظاري. ذهبت الى البيت لعلّي أجده ولم يكن هناك أيضاً، فزرت الضريح لأتأكد، وقرأت اسمه على الشاهد يلمع في الشمس كنصل سكّينٍ، بينما العشب يتكاثر فوق جسده الذي لم يعد يسير من الغرفة إلى المطبخ أو ينام على السرير أو يستيقظ في السادسة ليذهب إلى العمل.

الطقس معتدلٌ لكنّ البرد يعصر عظامي، فتشعل أمّي المدفأة وتعطيني كنزةً سميكةً وتضع لي ثلاثة أغطيةٍ إضافيّةٍ. أمّي التي أمضت عمراً تغرف الحبّ من قلبها وتصبّه لنا حساءً يدفئ أرواحنا، ها هي، منذ مات أبي، تتشارك والحزن سريرها كلّ ليلةٍ، وتدّعي أنها على ما يرام.
أحاول الفرح بعد كلّ تلك العزلة، لكنّ في قلبي حزنٌ مؤجل أسكتّه أشهراً كثيرة بسماع الموسيقى الصاخبة ومشاهدة افلام الستينيّات، وها هو الآن يمزّق قلبي ويخرج مجروحاً يتخبّط ما بين الحيطان والأسقف باحثاً عن نافذة تؤدي الى السماء. أذكّر نفسي: الألم توأم الحبّ السياميّ وفصلهما غير ممكن.
أجلس بجانب المدفأة وأفتح دفتر الرسائل التي دوّنها أبي في أوائل السبعينيّات. يقول في إحداها: على الراديو الآن أغنية جديدة لأم كلثوم: "الحبّ كلّه". أضع الأغنية، وأتخيله شاباً في الخامسة والعشرين، يمضي الليل مستمعاً إلى الراديو، يكتب الرسائل ويدوّن الأغاني. يغلّفني حبّ العالم كلّه وأبتسم.

10-1-2021

Thursday, July 09, 2020

مثلك تماماً


لا شكّ أنك
يا أبي
تستمرّ في الحياة
من خلالي
فقد أصبحت فجأةً
آخذ قيلولةً كل يوم
مثلك تماماً
أنا التي لم أفعل ذلك من قبل أبداً
وأصبحت أصنع العشاء
على طريقتك
ولم أكن أحاول ذلك مسبقاً

أصبحت أحبّ التصوير أكثر
وتعهّدت
أن ألتقط المزيد من الصور العائلية
كما كنت تفعل

وها أنا أسمع أم كلثوم
بأذنيك
فترتسم نظرتك على وجهي
وأقرأ
فأشعر أنك تقرأ معي

وها إن حبّي لأمّي
قد تضاعف:
زاد عليه حبّك لها

لا شكّ أنك
يا أبي
تستمرّ في الحياة
من خلالي
ولذلك بتّ متمسّكة بالحياة أكثر:
لا أخاف موتي
بل أخاف موتك أنت
مرة أخرى.


Friday, May 29, 2020

حداد

أودّ أن أصدق أن العالم
كلّ العالم
دخل في حدادٍ بعد موتك:
الشركات أقفلت أبوابها
والمحلات أغلقت
والمطارات تعطّلت
حتى مباريات كرة القدم أوقفت
في كلّ البلاد
لا بدّ أنك الآن
أكثر حريةً منّا جميعاً
تتنقّل في الكون كما تشاء
بروحٍ خفيفةٍ
متحرّرة من عبء الجسد
وقيود الوقت
والأمكنة المغلقة
والأمراض والأعراض
ولا يهمّك اكتشاف أدوية أو لقاحات
ولا يعنيك ما يقول السياسيون
ولا يقلقك تدهور الاقتصاد
لا بدّ أنك الآن أكثر سلاماً منّا جميعاً
بلا حظرٍ للتجوّل يفرض عليك
بلا قلقٍ
ولا مللٍ
.ولا انتظار

21-5-2020

ثمار


ببساطة وقوع الثمار
من الأشجار،
يموت البشر:
الكون يقطفنا
واحداً واحداً
حين يشاء

ورغم أنّنا ندرك
حتميّة ذلك
نخاف ونغضب ونقاوم
ورغم أنّنا نعرف
أن لا مهرب
لا نكفّ عن التفكير بالهروب

غير أنّ التفاحة مثلاً
تعيش في سلامٍ تام
تلمع في الشمس
غير آبهةٍ
بتاتاً
.بمصيرها

14-2-2020

بحرٌ في حبّ أبي



كان أبي يحبّ الكتب منذ صغره. في بيتنا، منذ ولدت، مكتبةٌ فيها موسوعة علمية وموسوعة قصصٍ عالمية وأخرى طبية وكتب أدبية كثيرة.

أثناء حديثنا عن الموسوعات في بداية تشرين الأول الفائت، قال لي: "جبت مجموعة جبران الكاملة قبل كم سنة.." وصمت قليلاً ثمّ قال: "بس الواحد ما عنده وقت للقراءة بين الشغل وهموم الحياة." فقلت له أنّه، بعد التقاعد، سيمتلك وقتاً كافياً لذلك. فأخذ نفساً عميقاً وقال: "شو بعرّفني.. انشالله الواحد يضلّ..".

بعد هذا الحديث بثلاثة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، مات أبي بالسرطان. لم يتسنّ له الوقت ليتقاعد. ظلّ، حتى اليوم الأخير، يهتم بشؤون العمل عبر الهاتف وهو على سرير المستشفى. ولم يقرأ شيئاً من الكتب التي ما زالت في المكتبة تنتظر.

الصورة أعلاه أخذت له على بحر صور، حيث أمضى طفولته وشبابه قبل أن يسافر إلى الخليج ويستقر بعدها بسنوات في قرية في جبل لبنان.

كان، أيام المدرسة والجامعة، يأخذ كتبه وقت الفجر إلى البحر، ويدرس ذهاباً وإياباً حتى طلوع الصّباح. أتذكّر صوته وهو يخبرني ذلك كلّما مررنا إلى جانب البحر في صور، شارحاً كيف كان الشاطئ أوسع حينها، قبل أن يردموا بعضاً منه ليصنعوا طريقاً للسيارات.

في زيارتنا الأخيرة لصور قبل عام أو أكثر، أراني بيت العائلة القديم، والطريق المؤدي سيراً من هناك إلى البحر، وفي صوته نشوةٌ وحنينٌ يتكرّران كلّما تذكّر تلك الأيّام.

مات أبي في مثل هذا اليوم منذ ثلاثة أشهر، ولم يتسنّ له الوقت ليودّع بحر صور أو ليخبرني تلك القصة مرّةً أخيرة.

كان أبي محبّاً للحياة، قليل الكلام، خفيف الظلّ، سهل التعامل، مليئاً بالحبّ. كان يروي القصص والنكات والحزازير في الجلسات العائليّة، فيضحك ويضحكنا جميعاً.

كان يساعد في أعمال البيت. يحضّر الفطور أيام العطلة. يصنع السندويشات لنا جميعاً وقت العشاء. يقطع الفواكه لجميع الجالسين. يغلّف بحرصٍ طعاماً طبخته أمي لتضعه في حقيبتي قبل السفر. 

في زياراتي إلى بيروت، كان يصرّ أن يأتي الى المطار ليستقبلني بنفسه. ويتوقف على الطريق ليأتي لي بشيءٍ أشربه. ويحرص أن يظلّ في الثلاجة نوع البوظة التي أحبّها. ويذكّرني، حين أسافر، بمواعيد مباريات كرة القدم كي لا تفوتني.

كان أبي يدلّك كتفي أمي حين يتفاقم ألمها. ويسأل عنها اذا غابت قليلاً في الغرفة المجاورة. "وين امّك؟ شو بتعمل؟ مطولة؟". كان يحبّها حبّاً صافياً سلساً خفيفاً.. وهي مكرّسةٌ نفسها لتصنع ما يحبّ. السعادة بالنسبة إليهما أن يجلسا معاً في غرفة الجلوس في مساءٍ عاديّ يشاهدان الأخبار ثم مسلسلاً ويعلّقان على أحداثه.

لم يتشاجر أبي وأمي مطلقاً. ولو حدث وقال أحدهما ما يزعج الآخر، يتحدثان عن الأمر بهدوء، أو يعبّران عن غضبهما مباشرةً، لتعود الحياة الى طبيعتها بعد وقتٍ قصير. 

حين مرض أبي، كانت أمي تلبسه وتطعمه وتهتم بكل تفاصيله في كلّ لحظةٍ من اليوم. وتنام على كرسيّ في المستشفى لكي لا تتركه لحظةً واحدة. 

في اليوم الأخير قبل أن يفقد وعيه، ولم يكن قادراً على الكلام، قبّلها عشرات المرات وشدّ على يديها كأنّه يقول لها شكراً على كل شيء. 

مات أبي وهو ما يزال راغباً في الحياة. لم يعطه الموت وقتاً ليرتاح من سنوات العمل المتواصلة. مات وفي عينيه أملٌ بأن يشفى بمعجزةٍ ما. 

وها أنا الآن هنا، عاجزة عن السفر لأحضن أمّي، أحاول أن أجد ضوءاً أنهي فيه نصّي هذا، لكنّي حزينةٌ بحقّ، وليس عندي رغبةٌ في تجميل ذلك.

28-4-2020


عن الموتى - محاولة ثالثة -


هل يدرك الموتى
أنّهم موتى
كما يدرك الأحياء
أنّهم أحياء؟

هل يمضون أعوامهم الجديدة
في البحث عن تفسير الموت
بقدر ما نحاول تفسير الحياة؟

هل يدرك الموتى
أنّنا أحياء؟
يتجوّلون بيننا
غير مرئيّين؟
ويتكلّمون بصوتٍ
غير مسموع؟

هل يرسلون إلينا الإشارات حقّاً
كما نودّ أن نصدّق؟
أم إنّهم يبدؤون حيوات جديدة
غير آبهين بنا؟

ما الّذي يفعله الموتى الآن؟
هل يشعرون
أنّنا نفكّر بهم؟

هل يصنع الموتى الموسيقى؟
هل هم أيضاً
يكتبون الشّعر؟

هل يكتبون يوميّاتهم؟
هل يتحدّثون؟

هل هم الآن في السّماء
يمارسون التأمّل واليوغا
ولا يأبهون بما يحدث
على سطح الأرض؟

22-2-2020


قيلولة

كنت أفتح باب الغرفة بحذرٍ
أمشي على أطراف أصابعي
أصل إلى خدّك وأقبّله
فتفتح عينيك وتسألني:
كم السّاعة الآن؟

السّاعة الآن السّادسة مساءً
فلتستيقظ، رجاءً،
من هذا النوم الطويل.

28-2-2020

الفراغ


كنبتك
سريرك
كرسيّ طاولة المائدة
مقعدك في السيّارة

الأماكن تفرغ منك
لكنّك
في قلبي
.تكبر

27-2-2020

من بعدك

من بعدك
تحزنني الموسيقى كلّها
والأخبار كلّها
والشوارع
والمدن
والحارات
والبحر يحزنني
والشعر يحزنني
والقصص والرسائل والمذكّرات
وصوت أمّي حزيناً
على الهاتف
وأنا أعجز عن سؤالها:
كيفو بابا اليوم؟


28-2-2020

ضجيج


تضجّ في رأسي
الأشياء الّتي لم أقلها لك

*

أغمض عينيّ
وأصنع حديثاً وهميّاً
بيننا

*

أصنع ذكريات جديدة
وأصدّقها

*

هل أنت أيضاً
تفعل ذلك
في القبر
يا أبي؟

28-2-2020

شهر

هل نحن أكثر
من أوراق أشجارٍ
لا مهرب من وقوعها
كي تولد أوراقٌ جديدة؟
هل تحزن أوراق الأشجار أيضاً
حين تفقد بعضها؟
من قال أن الحزن
يصغر مع الوقت؟
لقد مضى شهرٌ
والغصّة تفترش قلبي
وتبني فيه لها بيتاً
من قال أن الوقت يشفي؟
مضى شهرٌ
والقهر يأكل دماغي
خليّةً خليّة
أفتقدك كثيراً
كما لو في قلبي حفرةٌ
لا سبيل لردمها
أتأمّل صورتك
ممتنّةً لكلّ ذاك الحبّ
وكلّ ذاك الفرح
يؤلمني الفقد
وأحزن
بقدر ما أحبّك.

28-2-2020

قبلة

أقبّل جبينك
فتستيقظ
من الموت
في حلمي
فقط

5-2-2020

يا أبي


الأخبار في التلفاز
تستمرّ
من دونك يا أبي
العالم تدور أحداثه
من دونك
من أناقش هذه الأمور الآن؟
مع من أتحدث في السياسة؟
مع من أنتظر كرة القدم؟
مع من أستمع إلى الزجل
وأم كلثوم؟
من يقاسمني الطريق
من بعدك
يا أبي؟
*
كيف أصبح شارع الحمراء
في ليلةٍ واحدة
شارعاً للألم؟
كيف صارت بيروت
مدينةً للحزن؟
كيف نغادر بيروت الآن؟
كيف نحتمل الطريق وحدنا؟
كيف ندخل
إلى البيت
من دونك؟
*
الطريق
طويلة
لكن
السماء ساحرة الألوان
والبحر هادئٌ هادئ
*
الألم
أن أريد استرجاعك
لحظةً
لأقول لك كلمةً واحدة
ولا أقدر
أن أفكر فجأةً بسؤالٍ
لا يعرف إجابته
أحدٌ سواك
أن أودّ الذهاب الى الغرفة المجاورة
لأقول لك شيئاً عاديّاً
ولا أستطيع
*
شعورٌ بالفقد
يفتك بي:
هل يستمرّ هذا الألم
إلى ما لا نهاية؟
كيف أشفي أمّي من وحدتها؟
ماذا أقول لسامي ويارا وليا؟
كيف نجتمع عائلةً
وأنت تنقصنا
يا أبي؟
*
الساعة الثانية
بعد منتصف الليل
مضى يومٌ إلا ساعة
على رحيلك
ولم أنم بعد
كيف أغفو
ولست في البيت؟
كيف أنام
ولم أقبّل خدّك؟
كيف لن أسمع قدميك
في الصباح؟
كيف لن أسمع صوتك
مرةً أخرى
أبداً أبداً؟
كيف أعرف أنك في ضريحٍ باردٍ
وأغفو
يا أبي؟
*
نم عميقاً يا حبيبي
لن نوقظك من قيلولتك اليوم
حلّق كما تشاء
كن حرّاً كما تريد:
بعد الآن
لا وثيقة سفر
تمنعك
سأراك في البحر والسماء
والغيوم والشجر والنجوم
سألامسك في الهواء
نسمةً نسمة
أقبّلك
كما كلّ ليلةٍ
قبلةً أخيرةً هذه المرّة
تصبح على خير
يا بابا

28/1/2020