Sunday, July 07, 2013

ما يبقى بعد الموت


ما يبقى بعد الموت

الكتاب الذي أقرأه الآن مثلاً، ربّما يحملونه إلى مكتبةٍ ما. ربّما لا يقرأه أحد. ربّما يقرأه كثيرون. رغم ذلك، أحدٌ لن يعرف عند أيّ كلمةٍ خفق قلبي ذات يوم. الشارع الذي مررتُ به ألف مرّة أو أكثر، سيبقى هو الآخر. غير أنّ خطوات الآخرين، في غضون ساعات، سوف تمحو خطواتي. السماء التي نظرتُ إليها في أيّام الضيق سوف تبقى، غير أنها، بين العيون الكثيرة التي تحدّق فيها، سوف لن تتذكّر نظراتي. المدن التي لم أزرها، لن تبالي برحيلي. المدن التي عشت فيها، سوف تكون مشغولة بملايين البشر الآخرين ولن تلاحظ غيابي. إسمي المنحوت على الضريح، سوف يبقى لوقتٍ لا بأس به، غير أنّه، من على بعد أمتار، يبقى مجرّد إسم آخر بين زملائه، الأسماء المنحوتة على الأضرحة المجاورة.

جسدي لن يبقى. هذا مؤكد. 

روحي، لا أعرف.



***



التواريخ



في المدرسة، كان علينا أن نكتب تاريخ اليوم في أعلى الصفحة في دفتر كلّ مادّة، وعند كتابة الفروض المدرسيّة، وفي أوراق

 الإمتحانات. كنت أنسى أحياناً في أيّ يومٍ نحن، فأسأل من حولي. لكنّي حتّى وإن دوّنته بسرعةٍ، فإنّ يدي كانت تسعى لأن تخطّه بوضوحٍ شديد لضرورة ذلك. كان ذلك منذ حوالى عشر سنين. بعد ذلك، أصبحت التواريخ تظهر لي فقط عبر شاشة الكومبيوتر. لم يعد ثمة حاجة لكتابتها في أيّ مكان. منذ بضعة أيّام، قرّرتُ أن أرسل بطاقةً تذكاريّةً عبر البريد، وفي اليوم التالي تذكّرتُ أنّني لم أكتب تاريخ اليوم عليها. هل ثمّة قيمة للذكرى من دون تاريخ؟ فكّرتُ. الجميع متّفقون أنّ الوقت، منذ عشر سنين أو أكثر، أصبح يمرّ سريعاً بشكلٍ غريب. الألفيّة باتت ماضياً لا نكاد نتذكّره. الحروب الكثيرة التي حدثت، نخطئ أحياناً حين نحاول تذكّر تواريخ حدوثها. أقرباؤنا الذين باغتهم الموت، كم نطرق في التفكير لنتذكّر في أيّ سنة حدث ذلك. التواريخ تظهر لي على الشاشة كلّ يوم. تؤرّخ رسالتي الإلكترونيّة من دون أيّ جهدٍ منّي. تظهر لي روزنامة بكبسةٍ واحدة، دون حاجتي لأن أسأل أحداً. التواريخ تظهر لي على الشاشة، غريبة عن يدي. يدي نفسها التي كان عليها كلّ 
صباح أن تدرك تاريخ اليوم لتخطّه في أعلى صفحة الدفتر المدرسيّ.


*** 

المدينة الصغيرة

أعرف ما تشعرين. ذلك الحزن. ذلك الثقل في قلبك بعد كلّ وداع. هم يأتون ويرحلون مجدّداً. يصنعون لك الذكريات التي سترافقك في المدينة بعد رحيلهم. ولأنّ المدينة صغيرة جدّاً، تتراكم الذكريات في الأماكن نفسها عاماً بعد عام. تتراكم الوجوه. أعرف ما تشعرين. تلك الكآبة. أفهمها جيّداً. هم يرحلون وتبقى لك الصور الفوتوغرافيّة لتؤكّد أنّهم كانوا. تحزنين. أعرف. لكن عليك أن تنصتي جيّداً. في الليل خصوصاً. للضحكات صدىً لا يخفت. حدّقي جيّداً. الإبتسامات في الصور ليست رهينة اللحظة كما تعتقدين. 
هم أيضاً يحزنون حين يبحرون بعيداً.
هم أيضاً يحزنون. 


*** 

سمير نصّار

حين متّ، كنت في الخامسة من عمري. 
لم أكن أعرف الموت حينها، لكنّي استنتجتُ، ممّا يدور حولي، أنّنا لن نراك مرّة ثانية. لم أكن أفهم البكاء، لكنّي حين رأيت أمّي تبكي، بكيت. 
الجميع كان متّشحاً بالسواد. القرآن كان يأتي عالياً من المسجّل. نحن الأطفال، الذين لم يتسنّ لنا الوقت لندرك من الحياة ما يكفي، كنّا مذهولين بهذا التغيير المفاجئ في روتين الحياة. هذا الحشد من الناس. هذه القبل والعناقات والدموع.
بعد ذلك، مرّت الأيّام. السواد بدأ يبهت تدريجاً. القرآن لم يعد يأتي عالياً من المسجّل. الجميع باتوا يبكون أقل من ذي قبل. ونحن الأطفال أخذنا نكبر، كما تودّ لنا الحياة أن نفعل.
أتذكّرك الآن. بعد عشرين عاماً. لا أعرف لماذا. لكنّي أتمنّى أن  تدرك ذلك حيثما أنت.


*** 

كوبنهاغن – أيّار 2012

الدراجات الهوائيّة في كل مكان. طيورٌ تشبه النوارس تحطّ وتطير في شارعٍ فرعيّ. فتاةٌ شعرها زهريّ اللون. أجراس الكنيسة في الثامنة صباحاً. خمسة عشر عجوزاً يتحلّقون حول طاولةٍ في مطعم. قبلة في الحانة. عناقٌ في الشارع. "أفتقد دمشق"، يقول أنس. الدراجات الهوائيّة في كل مكان. مطرٌ غزيرٌ يهطل فجأةً. "موريتانيا موجودة على خريطة العالم"، يقول الحاج ابرهيم. "كدت لا أعرف بغداد في زيارتي الأخيرة"، تقول دُنى. "أفتقد دمشق"، تقول عواطف. قبلة في الشارع. رقصةٌ في الحانة. "أبيض وأزرق"، يقول الحاج ابرهيم متحدّثاً عن الزيّ الموريتاني. آرام يتحدّث عن السجون في سوريا. "لم أعد أنتمي إلى كوبنهاغن"، يقول أنس. نقاشٌ عن تونس: شمس الدين مع الحكومة، إيناس ضدّ الحكومة، ميّار ذات الثلاثة أشهر تتمتم شيئاً غامضاً عن ذلك. عجوز على دراجة هوائيّة. ماذا سيحدث في مصر، يسأل أحدٌ ما. طفلٌ في عربة تجرّها درّاجة هوائيّة. شارع مليء بمحال الشاورما والكباب. الوجوه رماديّة كما الغيوم، يقول آرام. رياحٌ قويّة تهبّ فجأةً. "حيفا أجمل مدينة في العالم"، أردّد للجميع. نقاشٌ حاد عن سوريا في المقهى. حبٌّ في الحديقة. حبٌّ في القطار. "أم درمان أجمل مكان في العالم"، يقول أنس. أجراس الكنيسة في الثانية بعد الظهر. بجعة في الحديقة. شرطيّة على حصان. فتاة شعرها أزرق اللون. نستمع إلى الموسيقى الموريتانية في منزل دُنى. أتحدّث عن شارع الحمراء. "الشعب يريد إسقاط النظام"، نصرخ في الشارع. مطرٌ غزيرٌ يتوقّف فجأةً. عناقٌ قرب الفندق. الدراجات الهوائيّة في كلّ مكان. مطرٌ خفيفٌ يهطل فجأةً. لو قليل من 

الشمس الآن، أفكّر. أكره الوداع، أقول للجميع. أكره الوداع.



***

دوائر

لا تؤمنين بالمصادفات، بل بأنّ كلّ شيء يحدث لسببٍ ما. لا تؤمنين بعشوائيّة الحياة، بل بأنّ كلّ الأحداث مخطّط لها مسبقاً. تصفين الحياة بدوائر، تصنعها حصاةٌ يرميها الخالق في المياه. تقولين: الخالق، بعد أن يرمي الحصاة، لا شأن له بالدوائر. الدوائر هي الحياة. 
تتكلّمين عن الفرديّة في الموت، تقولين إن اللّه يرسل للإنسان أشخاصاً لينقذوا حياته من موتٍ محتّم.
لكن لماذا لا يرسل أحداً لأولئك الموتى، أقول؟ ولماذا الموت معمّمٌ بهذا الشكل في تلك البلاد؟أمّا أنا، أقول، فأؤمن بالمصادفات، وبأنّ لا شيء يحدث لأيّ سبب. أؤمن بالحظ السيئ، وبعشوائيّة الحياة، وبأنّ لا شيء مخطّطاً له مسبقاً.
الحياة دوائر، أوافق. تكبر ثمّ تكبر حتّى تختفي تماماً. كأنّها لم تكن.
قولي لي إذاً، لماذا يرمي الخالق حصاة في المياه؟ لماذا يصنع الدوائر؟


***

الفضاء

ما أسخفه كوكبنا الصغير مقارنةً بحجم الكون. ما أسخفنا عن بعد بضعة كواكب. كلّ هذا الضّجيج الذي نصنعه لا يصل إلى أولئك الذين ربّما يقطنون هناك. 
هم ربّما يهتمّون بأخبارنا فقط حين يحدث زلزالٌ مدمّر أو هزّة أرضيّة هائلة أو حين يرمي أحدنا قنبلة نوويّة على الآخر. يغيّرون قناة تلفازهم العجيب إلى قناة "الأرض"، يتابعون أخبارنا لبعض الوقت، ثمّ سرعان ما يملّون منّا ويعودون إلى روتين حيواتهم.
أو ربّما لا يعرفون أنّنا موجودون أساساً. 
أو ربّما هم غير موجودين أساساً.
ما أسخفه كوكبنا الصّغير في هذا الفضاء اللانهائيّ. ما أسخفها همومنا الشخصيّة. حروبنا. رغباتنا بالسيطرة. أكاذيبنا. جرائمنا. اختراعاتنا. أحاديثنا. أفكارنا. 
كم نحن وحيدون في هذا الكون. وكم سخفاء.
كلّ هذا الضجيج الممتدّ منذ الأزل، لا يصل إلاّ إلينا.